المادة    
قال المصنف: (ثم قال تعالى: (( وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ ))[الأعراف:202] أي: وإخوان الشياطين تمدهم الشياطين في الغي ثم لا يقصرون). ووضح ذلك ابن عباس رضي الله تعالى عنهما (فقال: [لا الأنس تقصر عن السيئات، ولا الشياطين تمسك عنهم]) أي: إخوانهم إخوان الشياطين، وهل للشياطين إخوان؟ الله تبارك وتعالى سماهم إخواناً، وسماهم أولياء، فهم إخوان كما في قوله تعالى: (( إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ ))[الإسراء:27]، وأولياء كما في قوله تعالى: (( وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ ))[الأنعام:121]، فالأولياء كثير، والشياطين يمدون إخوانهم وأولياءهم في الغي وهو الضلال والغواية والعمى، ثم لا يقصرون، فهم كما قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: [ لا الأنس يقصرون عن السيئات ولا الشياطين تمسك عنهم ]. والأصل في هذا أن الإمداد يكون من الشياطين، فإذا أمدت الشياطين إخوانهم وأولياءهم من أصحاب المعاصي والفجور الذين يتقبلون منهم، والذين لديهم استعداد واستقبال للطائف والإرسال، وما يبثه الشيطان عليهم، فإنهم يزدادون غياً فلا يقصرون، أي: لا ينزجرون ولا يرتدعون ولا يتراجعون عما هم فيه، لكن كما قال ابن عباس رضي الله تعالى عنه، وجعل ذلك من الطرفين، فهؤلاء يستمرون في إمدادهم بالشر، وأولئك يتمادون في قبوله وفي غيهم الذي تدفعهم إليه الشياطين، والشياطين كما قال الله تبارك وتعالى: (( أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا ))[مريم:83]، أي: تزعجهم إزعاجاً، وهذا من عجيب حكمة الله سبحانه وتعالى، فإن الذين يتعلقون بالشياطين تركوا عبادة الله وطاعته، ولم يكن لديهم التهيؤ والاستعداد لاستقبال ما يلقي إليهم الملك. ولو كانوا يذكرون الله تبارك وتعالى، ويحبون بيوت الله وحلق الذكر وأولياء الله وأهل الخير لكانت الملائكة هي التي تلقي إليهم الطمأنينة والسكينة والراحة، لكن هؤلاء بإعراضهم وعنادهم وكفرهم يسلط عليهم أولياؤهم الشياطين تؤزهم أزاً، أي: تزعجهم إزعاجاً، ولذلك هذا الإزعاج والأز يتعب البعض ويجهدهم وينهكهم في أمورٍ وقضايا كثيرة، ويأتي آخر الليل وهو في غاية الهم، لكن يريد الشيطان منه أن يهيئه لذنب أو لجريمة أو لفاحشة، فيقوم وينهض من فراشه أشد مما لو كان أحد طلبة العلم الأخيار الصالحين عانى مثل ذلك التعب، ثم جاء وقلت له: قم، أو جاءه ما يدعوه إلى أن يقوم أو أن يهب أو أن يتحرك أو أن ينشط، لأخذته العلل وقال: أنا متعب، لنؤجل ذلك إلى غد، أما الشياطين -فسبحان الله- فيحركون أولياءهم ويعملون ويدأبون ويواصلون طوال الليل والنهار؛ لأن الشياطين تؤزهم ولا تدعهم يرتاحون أو يهدئون أو يطمئنون، وهذا جزاء من غفل عن ذكر الله، قال تعالى: (( وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ ))[الزخرف:36]، أي: من عشي وعمي وأعرض وترك ذكر الله تعالى، فإنه يأتيه البديل وهو الشيطان، ويكون بهذه المثابة وهذه الحالة، ومن أبى أن يكون عبداً لله، وأن يستخدم جوارحه وهمه وإرادته وفكره وأعماله في طاعة الله، وما يقرب من الجنة، ورضوان الله تبارك وتعالى، فإنه يعاقب بأن يكون هذا العمل وهذه الإرادة وهذا الفكر وهذا الهم وهذا البذل وهذه التضحيات وهذا التعاون وهذه الجهود مما يقرب إلى النار وإلى غضب الله تبارك وتعالى، وهو عبادة للشيطان في نهاية الأمر، وهذه هي حقيقة العبادة للشيطان، وليس شرطاً أن كلاً من عباد الشيطان أو من أهل الكفر والفجور يسجدون ويركعون للشيطان، لكن هم بهذه الحال عبيده وعباده، ولهذا كما قال الخليل عليه السلام لأبيه: (( يَا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ ))[مريم:44]، فهذا هو المقصود، وكما أخذ الله تبارك وتعالى العهد على بني آدم: (( أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ ))[يس:60]، أي: من أطاعه فقد سخره له وتملك قلبه، وقد أصبح عبداً له، وبالتالي فإذا حصلت هذه الحالة يقول الشيخ: (فإذا لم يبصر يبقى قلبه في عمى، والشيطان يمده في غيه)، ولنفترض الحالة التي يريد الشيخ رحمه الله أن يبينها لنا، والدالة على تفاوت أهل الإيمان فيهم، يقول: هذا ما ذكره الله تبارك وتعالى في حق المتقين الذين: (( إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ ))[الأعراف:201] لكن آخر ما أبصر، بمعنى: أنه ما تذكر، فنتيجة لذلك يبقى قلبه في عمى، (والشيطان يمده في غيه، وإن كان التصديق في قلبه لم يكذب) فهو إلى الآن لا يزال موقناً بأن الله حرم هذا، وأنه عبد لله عز وجل، وأن الواجب عليه أن يمتثل ما أمر الله تعالى به، فهو ما كذب ولا خرج عن حد الامتثال بقلبه، وإنما هو مصدق بقلبه مقر، لكنه من جهة العمل فهذا حاله وشأنه، يقول: فذلك النور والإبصار، وتلك الخشية والخوف تخرج من قلبه، وهذا دليل كما قلنا بتقسيم أهل السنة والجماعة الفطري البدهي السهل من أن أعمال القلب لم تعد فيه، وما ذكره الشيخ من النور القلبي والإبصار والخشية والخوف هذه من أعمال القلب، إذاً فأعمال القلب لم تبق لديه، لكن الباقي لديه هو قول القلب، أي: إقراره بقلبه أن الله حرم هذا، وأن هذا اتباع وطاعة للشيطان، قال: وكما أن الإنسان يغمض عينيه فلا يرى، وإن لم يكن أعمى. أي: أن حالة التلبس بالمعاصي، وطاعة الشيطان فيها، كحال الذي يغمض عينيه أو يتغافل أو ينام أو لا يريد أن يرى، مع أنه ليس بأعمى.
فإذاً لو تخيلنا أمامنا حفراً عظيمة، والصراط المنجي واحد: (( وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ))[الأنعام:153]، فهذا الطريق القويم الواحد إذا خرج عنه العبد فإن هنالك طرقاً وحفراً كلها تؤدي إلى النار والعياذ بالله.
  1. أنواع طرق الضلالة

    والعابرون لهذه الطرق نوعان:
    أحدهما: كافر أو أعمى، ومن كان في هذه أعمى -أي: عن ذكر الله تبارك وتعالى والإيمان به- فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلاً عن صراط الله الذي على متن جهنم، فيسقط في النار والعياذ بالله، قال تعالى: (( وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا ))[طه:124-125]، أي: يا رب وعدت أن تبعث الناس كما كانوا، فلم حشرتني أعمى وقد كنت بصيراً؟ فيذكره الله تبارك وتعالى بأن هذا العمى الحسي في هذا اليوم نتيجة إعراضه عن آيات الله ونسيانها، فكذلك اليوم تنسى، فلا تعطى ما تبصر به الصراط المستقيم.
    الثاني: ليس بأعمى أو ليس بكافر، لكنه أغمض عينيه وسار في هذا الطريق المظلم، فاختار أن يدخل في الظلام وترك النور، ومن دخل في الظلام الشديد الحالك -حتى لو أنه قد أوتي الإبصار بالعين أو بالحس- فإن ذلك لا ينفعه؛ لأنه أعرض عن النور أو الطريق الذي فيه النور، ومن يعرض عنه إلى الطريق المظلم لا بد أن يقع، وهذا حال صاحب الذنب ومرتكب الكبيرة، قال رحمه الله: (وإن لم يكن أعمى، فكذلك القلب بما يغشاه من رين الذنوب لا يبصر الحق). والران هو الذي قال الله تبارك وتعالى فيه: (( كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ))[المطففين:14]، وهو النكت السود التي كل ما فعل العبد ذنباً نكتت فيه نكتة، فيجتمع فلا يبصر الحق، قال: (وإن لم يكن أعمى كعمى الكافر). أي: لا يرى الحق ولا يرى ما أمامه، فيقع في حفرة إلى أخرى، ولو شاء لفتح عينيه ولتذكر فأبصر، ولهذا نرى التائبين من المؤمنين من يتوب عن قريب، ومنهم من يتوب بعد أشهر، ومنهم من يتوب بعد سنوات من عرضك للحق عليه وإيضاحه له، ومنهم إلى قريب الموت، فلا يتوب إلا عند الموت، ومنهم من يموت غير تائب والعياذ بالله؛ وبالتالي فتتفاوت أحوال الناس في هذا الشأن، فهو ليس بأعمى، لكنه لم يتذكر ليبصر، يقول: (وجاء هذا المعنى مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( إذا زنى العبد نزع منه الإيمان فإن تاب أعيد إليه ) )، هذا الذي فسر به عبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنه الحديث الآخر الصحيح: ( لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن )، وهو كما ذكر الشيخ هنا وذكر الحافظ رحمه الله أنه جاء مرفوعاً، وهو حسن أو صحيح، وقد علق عليه الشيخ ناصر رحمه الله بشيء فقال: صحيح، والحافظ أيضاً، وهذا الحديث الذي هو مشهور وموقوف عن ابن عباس رضي الله عنه أيضاً ثبت أنه صحيح مرفوع، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال ذلك، فهو يفسر الحالة: ( لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن )، أي: أنه إذا زنى العبد نزع منه الإيمان، فإن تاب أعيد إليه، ولذلك يجب على الإنسان أن يبادر بالتوبة مهما أصاب وارتكب من الذنوب، وذكره للزنا إنما هو مثال أو شاهد، وإلا فكل ذنب يذنبه العبد فهو سبيل أو ربما كان مدخلاً لئن لا يتوب أو يعمى بالكلية والعياذ بالله، والواجب عليه أن يتذكر فيبصر فيعود إليه نور الإيمان في قلبه، وتعود إليه الاستقامة على الطريق الذي هو سائر عليه.